تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 78 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 78

78 : تفسير الصفحة رقم 78 من القرآن الكريم

** لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَآءِ نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُواّ اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً, فأنزل الله: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} الاَية, أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى, يستوون في أصل الوراثة, وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة, أو زوجية, أو ولاء, فإنه لحمة كلحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: جاءت أم كُجّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء, فأنزل الله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} الاَية, وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر, والله أعلم, وقوله {وإذا حضر القسمة} الاَية, قيل: المراد وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث {واليتامى والمساكين} فليرضخ لهم من التركة نصيب, وإن ذلك كان واجباً في ابتداء الاسلام, وقيل يستحب. واختلفوا هل هو منسوخ أم لا على قولين, فقال البخاري: حدثنا أحمد بن حميد, أخبرنا عُبيد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين}. قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. تابعه سعيد عن ابن عباس. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: هي قائمة يعمل بها, وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاَية, قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم, وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي والحسن, وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر: إنها واجبة, وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج, عن إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال: ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الاَية وقال: لولا هذه الاَية لكان هذا من مالي, وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري: أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله, وقال الزهري: هي محكمة. وقال مالك: عن عبد الكريم عن مجاهد قال: هي حق واجب ما طابت به الأنفس.

ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة: أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر, قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية, قالا: فلم يدع في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه, قالا: وتلا {وإذا حضر القسمة أولوا القربى}, قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس, فقال: ما أصاب, ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الاَية في الوصية يريد الميت يوصي لهم, رواه ابن أبي حاتم.

ذكر من قال هذه الاَية منسوخة بالكلية
قال سفيان الثوري, عن محمد بن السائب الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس رضي الله عنهما {وإذا حضر القسمة} قال: منسوخة, وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس, قال في هذه الاَية {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} نسختها الاَية التي بعدها {يوصيكم الله في أولادكم}. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الاَية {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض, فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه, فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى, رواهن ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين} نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر. وحدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا سعيد بن عامر عن همام, حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: إنها منسوخة, كانت قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ثم نسخ بعد ذلك نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه, وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء. وقال مالك, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب: هي منسوخة, نسختها المواريث والوصية. وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا: إنها منسوخة, وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم, وقد اختار ابن جرير ههنا قولاً غريباً جداً وحاصله أن معنى الاَية عنده {وإذا حضر القسمة} أي وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت {فارزقوهم منه وقولو} لليتامى والمساكين إذا حضروا {قولاً معروف} هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار, وفيه نظر, والله أعلم. وقال العوفي عن ابن عباس {وإذا حضر القسمة} هي قسمة الميراث, وهكذا قال غير واحد, والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير رحمه الله, بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل, فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ, وهم يائسون لا شيء يعطونه, فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم وصدقة عليهم, وإحساناً إليهم وجبراً لكسرهم. كما قال الله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة. كما أخبر عن أصحاب الجنة {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} أي بليل. وقال {فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} فـ {دمر الله عليهم وللكافرين أمثاله} فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه, ولهذا جاء في الحديث «ما خالطت الصدقة مالاً إلا أفسدته» أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية, وقوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم} الاَية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموت, فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته, فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب. فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذاخشي عليهم الضيعة, وهكذا قال مجاهد وغير واحد, وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده, قال: يا رسول الله, إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة, أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال «لا». قال: فالشطر ؟ قال «لا». قال: فالثلث ؟ قال: «الثلث, والثلث كثير». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الثلث, والثلث كثير» قال الفقهاء: إن كان ورثة الميت أغنياء, استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث, وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث, وقيل: المراد بالاَية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى {ولا يأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبرو}, حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس, وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً, أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك, فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم, ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً, فإنما يأكل في بطنه ناراً¹ ولهذا قال {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعير} أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة 0 وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد, عن سالم أبي الغيث, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله, وما هن ؟ قال: «الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الؤمنات الغافلات» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبيدة, أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي, حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري, قال: قلنا: يا رسول الله, ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال «انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير. رجال كل رجل منهم له مشفران كمشفري البعير, وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم, ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسفله, ولهم جوار وصراخ, قلت: يا جبريل, من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً, إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً» وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه, يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد, حدثنا أحمد بن عمرو, حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث, عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً» قيل «يا رسول الله, من هم ؟ قال «ألم تر أن الله قال {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلم} الاَية», رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة, عن عقبة بن مكرم, وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن عصام, حدثنا أبو عامر العبدي, حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري, عن عثمان بن محمد, عن المقبري, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم» أي أوصيكم باجتناب مالهما, وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: لما نزلت {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلم} الاَية, انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} الاَية, قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

** يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لّمْ يَكُنْ لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
هذه الاَية الكريمة والتي بعدها والاَية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض, وهو مستنبط من هذه الاَيات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك. ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك. وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة, والحجاج بين الأئمة, فموضعه كتب الأحكام, والله المستعان. وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك, وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العلم ثلاثة, وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة, أو سنة قائمة, أو فريضة عادلة» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم, وهو ينسى, وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجه وفي إسناده ضعف. وقد روي من حديث ابن مسعود وأبي سعيد, وفي كل منهما نظر. قال ابن عيينة: إنما سمّى الفرائض نصف العلم, لأنه يبتلى به الناس كلهم. وقال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إبراهيم بن موسى. حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين, فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئاً, فدعا بماء فتوضأ منه, ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به, ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر.
(حديث آخر عن جابر في سبب نزول الاَية) قال أحمد: حدثنا زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر, قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع, قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً, وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا, ولا ينكحان إلا ولهما مال, قال: فقال «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين, وأمهما الثمن, وما بقي فهو لك». وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل به, قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسبب الاَية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي, فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات, ولم يكن له بنات, وإنما كان يورث كلالة, ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعاً للبخاري رحمه الله فإنه ذكره ههنا, والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الاَية, والله أعلم.
فقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} أي يأمركم بالعدل فيهم, فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث, فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث, وفاوت بين الصنفين, فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين, وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق, فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى, وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها, حيث أوصى الوالدين بأولادهم, فعلم أنه أرحم بهم منهم, كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها, فجعلت تدور على ولدها, فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك» ؟ قالوا: لا يارسول الله. قال «فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها» وقال البخاري ههنا: حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: كان المال للولد, وكانت الوصية للوالدين, فنسخ الله من ذلك ما أحب, فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين, وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث, وجعل للزوجة الثمن والربع, وللزوج الشطر والربع. وقال العوفي عن ابن عباس قوله {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وذلك لما أنزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين, كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن, وتعطى البنت النصف, ويعطى الغلام الصغير, وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم, ولا يحوز الغنيمة, اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه, أو نقول له فيغير, فقال بعضهم: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها, وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم, ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً. وقوله {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} قال بعض الناس: قوله {فوق} زائدة, وتقديره فإن كن نساء اثنتين, كما في قوله {فاضربوا فوق الأعناق} وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك. فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه, وهذا ممتنع, ثم قوله {فلهن ثلثا ما ترك} لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثلث ما ترك وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الاَية الأخيرة, فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورثت الأختان الثلثين فلأن ترث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم, حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين, فدل الكتاب والسنة على ذلك, وأيضاً فإنه قال {وإن كانت واحدة فلها النصف} فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضاً, فلما حكم به للواحدة على انفرادها, دل على أن البنتين في حكم الثلاث, والله أعلم. وقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} إلى آخره, الأبوان لهما في الإرث أحوال (أحدها) أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس, فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة, فرض لها النصف, وللأبوين لكل واحد منهما السدس¹ وأخذ الأب السدس الاَخر بالتعصيب, فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب. (الحال الثاني) أن ينفرد الأبوان بالميراث, فيفرض للأم والحالة هذه الثلث, ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض, ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم, وهو الثلثان, فلو كان معهما ـ والحالة هذه ـ زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم اختلف العلماء ماذا تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة, على ثلاثة أقوال: (أحدها) أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين, لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب. فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب ثلثيه, هذا قول عمر وعثمان, وأصح الروايتين عن علي, وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت, وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء. (والثاني) أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فإن الاَية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا, وهو قول ابن عباس. وروي عن علي ومعاذ بن جبل نحوه. وبه يقول شريح وداود الظاهري. واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه الإيجاز في علم الفرائض وهذا فيه نظر, بل هو ضعيف, لأن ظاهر الاَية إنما هو إذا استبد بجميع التركة, وأما هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه كما تقدم (والقول الثالث) أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة خاصة, فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر, وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة, فيبقى خمسة للأب, وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال, فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم, وللأب الباقي بعد ذلك)وهو سهمان. ويحكى هذا عن ابن سيرين, وهو قول مركب من القولين الأولين, موافق كلاً منهما في صورة وهو ضعيف أيضاً, والصحيح الأول, والله أعلم. (والحال الثالث من أحوال الأبوين) وهو اجتماعهما مع الإخوة, سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم, فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً, ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس, فيفرض لها مع وجودهم السدس, فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب, أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان, فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث, قال الله تعالى: {فإن كان له إخوة} فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة, فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي, ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر, فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس, ولو كان هذا صحيحاً عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به, والمنقول عنهم خلافه, وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال: الأخوان تسمى إخوة, وقد أفردت لهذه المسألة جزءاً على حدة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز بن المغيرة, حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد, عن قتادة قوله {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} أضروا بالأم ولا يرثون, ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك, وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم, ونفقته عليهم دون أمهم, وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم¹ وهذا قول شاذ رواه ابن جرير في تفسيره فقال: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم, إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم, ثم قال ابن جرير: وهذا قول مخالف لجميع الأمة. وقد حدثني يونس, أخبرنا سفيان, أخبرنا عمرو عن الحسن بن محمد, عن ابن عباس أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
وقوله {من بعد وصية يوصي بها أو دين} أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الاَية الكريمة. وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث أبي إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور, عن علي بن أبي طالب, قال: إنكم تقرؤون {من بعد وصية يوصي بها أو دين} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية, وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات, يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحارث, وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. (قلت) لكن كان حافظاً للفرائض معتنياً بها وبالحساب, فالله أعلم.
وقوله {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفع} أي إنما فرضنا للاَباء والأبناء, وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللأبوين الوصية, كما تقدم عن ابن عباس, إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم, لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من ابنه, وقد يكون بالعكس, ولذا قال {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفع} أي كأن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الاَخر, فلهذا فرضنا لهذا وهذا, وساوينا بين القسمين في أصل الميراث, والله أعلم.
وقوله {فريضة من الله} أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض, هو فرض من الله حكم به وقضاه, والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها, ويعطي كلاّ ما يستحقه بحسبه, ولهذا قال {إن الله كان عليماً حكيم}.